التكلف في التلاوة مخالف للكتاب والسنة الشيخ سعد الحصين
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]؛ والتكلف ينافي التيسير. ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة والتابعين في تلاوتهم كتاب الله إلا ما يؤكد التيسير ويتجنب التكلف.
ولقد صليتُ خَلْفَ الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي العام الأول والشيخ ابن باز المفتي الثاني والشيخ عبد العزيز بن عبد الله المفتي الثالث للمملكة المباركة، وخلف الشيخ عبد الرحمن بن سعدي والشيخ محمد بن عثيمين والشيخ صالح بن غصون رحمهم الله، وخلف الشيخ صالح الفوزان والشيخ عبد الله الغديان من كبار علماء دولة التوحيد والسنة، وخلف الشيخ علي الحذيفي (أعلم أئمة الحرمين بالقرآن)؛ فلم يكن بينهم ـ بفضل الله ـ من انحرف إلى شيء مما استحسنه بعض أئمة المساجد في هذا العصر المتأخر من التكلف؛ والاستحسان سبيل الابتداع (كما ذكر ابن تيمية رحمه الله) وهو شرع لم يأذن به الله (كما ذكر الإمام الشافعي رحمه الله)، أعاذ الله الجميع من الابتداع.
وإلى القارئ الكريم (من الأئمة وغيرهم) طرفًا من الابتداع المحدث المتكلف:
1) تكرار قراءة كلمة أو جملة أو آية في صلاة الفريضة الجهرية بحجة بيان المعنى. ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ولا عن أحد من الأئمة الأربعة ولا عمن سبقهم أو لحقهم من فقهاء الأمة في القرون المفضلة ولا عن أحد من علمائنا الأعلام (منذ أن جدد الله دينه بالأئمة محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود ونسلهما رحمهم الله وجزاهم عنا خير الجزاء) التعبد والتقرب إلى الله بهذا التكلف ولا الأمر به ولا تعليمه ولا إقراره. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة التجهد (لا الفريضة) أنه قام ليلة بآية مما قصه الله عن رسوله عيسى عليه الصلاة والسلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] يركع ويسجد بها أو يقوم بها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المصلي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، فلا يصلح هذا دليلًا للتكلف في الفريضة؛ ففي الترديد إثقال على المأمومين وقد أمر النبي الإمام بالتخفيف.
2) وصل آية بآية قبلها أو بعدها فصلهما الله في كتابه وفصلها النبي في تلاوته، فلم يرد عنه وصل آية بآية أبدًا، بل ورد عنه أنه كان يقف على رأس كل آية، وإذا لم تكن هذه المخالفة لشرع الله في كتابه وسنة رسوله تكلف وابتداع فماذا يسميه مبتدعوه واجب أو نفل لم يرد به الشرع؟ الله تعالى هو الذي فصل بين الآيات، ورسوله صلى الله عليه وسلم المبلغ عنه والمبين للتنزيل هو الذي سن التلاوة بالفصل بين الآيات واتبعه على هذه السنة الصحابة والتابعون وفقهاء الأمة في كل عصر حتى زين الشيطان استحسان المخالفة. وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
3) التمطيط التحزيني، وهو أمر محدث أملاه الهوى على بعض الأئمة الذين اختيروا لحفظهم أو أصواتهم، ولم يختاروا لعلمهم وفقههم (كما هي السنة)، وقد يكون هذا من النادر الذي اخترعه أبناؤنا ولم يستوردوه من مبتدعة الأمصار؛ فقد ذكر لي أحد القائمين على شؤون الحرمين أن بعض المعتمرين يحرص على السؤال عن (المسجد اللي بيعيطوا فيه) لأنه لم يعرفه في بلده المليء بالبدع. ولو كان في هذا العياط والتمطيط والتحزين خير ما تركه الشارع، ولا أهمله الفقهاء في الدين في القرون الخيرة؟
4) ومن تناقض البدع والمبتدعة تخصيص القراءة الجهرية بالتمطيط والتحزين والتكرار، فإذا أسروا بالقراءة هذّوها بحيث لا يتمكن المأموم من اتمام قراءة الفاتحة خلف إمامه، وقد أمر الله بالترتيل (التمهل والترسل) مطلقًا في الفريضة والنافلة وفي غير الصلاة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يترسل ويتمهل في التلاوة مطلقًا، وإذا قرأ: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: "آمين" وأمر بها المأموم خلف إمامه في الجهرية، وإذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: "سبحان ربي الأعلى"، وإذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] قال: "سبحانك فبلى" وفي صلاة الليل كان لا يمر بذكر الرحمة إلا سأل الله الرحمة ولا يمر بذكر العذاب إلا استعاذ بالله من العذاب، ويسبح ويحمد عند ذكر التسبيح والحمد. (انظر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني).
5) ومن تناقض البدع والمبتدعة تكبير الصوت ورفعه في الجهرية إلى درجة الإزعاج، ولقد رأيت أحد كبار علمائنا يسد أذنيه خوفًا عليهما من الأذى (فالعرب لا ينتجون الآلة ولا يعقلون في استعمالها) وذكر لي أن مقياس الصوت تجاوز في المسجد الحد المسموح به طبيًّا. وفي المقابل يخفض الإمام صوته في السرية فلا يُسْمِع نفسه، وكان المصلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون قراءته وتسبيحه ودعاءه في السرية فرضًا ونفلًا، وفي (الفقه على المذاهب الأربعة) ذكر المؤلف اتفاق الأحناف والشافعية والحنابلة على أن الحدَّ المجزئ في الصلاة إسماع المصلي نفسه، ورأى المالكية أن الحد المجزئ اللفظ بتحريك الشفتين. وقال الله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]. أما تخصيص آية أو جزء من الآية بصوت أعلى من غيرها فهو مُحْدَث.
6) ومن المحدثات: التزام الوقوف على حرف الاستثناء (إلا) ولو كان الاستثناء منقطعًا، والتزام الوقوف على حرف النفي (كلا) ولو كان في بداية آية أخرى فيصل الآيتين لهذا الغرض في مثل قول الله تعالى: {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا} [المعارج: 14].
والابتداع في هذا الباب يصعب حصره بعد أن سهل على المحدثين القول على الله بغير علم ولا فهم ولا فقه في كتاب الله وشرعه، واتباع أهوائهم وأهواء الذين يضلونهم بغير علم.
وكل هذا التكلف والابتداع واستحسانه وقبول العامة له لم يكن معروفًا في هذه البلاد والدولة المباركة قبل قرن، بل أقل من ذلك. هدى الله الجميع للوقوف عند حدود الله وشرعه وسنة رسوله وأعاذهم من تسويل الأنفس الأمارة بالسوء ووساوس شياطين الإنس والجن، وكفاهم بالاتباع عن الابتداع وبالوحي عن الفكر وباليقين عن الظن، وصلى الله وسلم على محمد وآله وأصحابه ومتبعي سنته.[b]