أبو عبد الرحمن المرساوي المديـــــــــــــــر العــــــــــــــــــــام
عدد المساهمات : 171 تاريخ التسجيل : 06/08/2009 الموقع : المرسى - الشلف
| موضوع: نصيحةٌ إلى المرشد الديني للحاجِّ رسالةٌ - ومسؤوليةٌ الأحد أكتوبر 14, 2012 4:49 pm | |
| نصيحةٌ إلى المرشد الديني للحاجِّ رسالةٌ - ومسؤوليةٌ
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد: فالحجُّ عبادةٌ عظيمةٌ، وهي الركن الخامس الذي عليه يؤسَّس الإسلام، ومن رحمة الله بعباده أنه أوجب عليهم الحجَّ مرَّةً واحدةً في العمر، ومن زاد فهو تطوُّعٌ(١). ونظرًا لأهمِّيَّة عبادة الحجِّ فإنه يجب على الحاجِّ العناية بمعرفة أحكام الحجِّ ومناسكه لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»(٢)، فيؤدِّيها قربةً إلى الله على الوجه المطلوب شرعًا، تحقيقًا للاتِّباع الواجب لأمر نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»(٣)، وذلك قصْدَ إيقاع عمله خالصًا وصالحًا لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠]، فكان -والحال هذه- تفقُّه الحاجِّ بأحكام الدين عامَّةً والحجِّ خاصَّةً حتمًا لازمًا حتَّى يكون على بصيرةٍ بما هو مطلوبٌ القيامُ به لتتمَّ العبادة موافِقةً لإرادة الشرع، ذلك لقيام الفرق بين من يسير على طريقٍ مضيئةٍ وبين من يمشي في طريقٍ مظلمةٍ، فإنَّ الأوَّل متيقَّن السلامة بخلاف الآخر، فإنه يُخاف عليه العطبُ والانحراف. لذلك احتاج الحاجُّ إلى مُرشدٍ ربَّانيٍّ إلى أداء مناسك حجِّه أداءً صحيحًا، والمعلوم أنَّ السلف مجمعون على أنه لا يُطلق على العالم الداعية أو المرشد الدينيِّ الموجِّه تسمية «ربَّانيٍّ» حتى يعرف الحقَّ ويعمل به ويعلِّمه ويصبر على مشاقِّ التعليم والدعوة والتوجيه والإرشاد، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «فجهاد النفس أربع مراتب –أيضًا-: إحداها: أن يجاهدها على تعلُّم الهدى ودين الحقِّ الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلاَّ به، ومتى فاتها علمُه شقيت في الدارين. الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلاَّ فمجرَّد العلم بلا عملٍ إن لم يضرَّها لم ينفعها. الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلاَّ كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبيِّنات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله. الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمَّلَ ذلك كلَّه لله. فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربَّانيِّين، فإنَّ السلف مجمعون على أنَّ العالم لا يستحقُّ أن يسمَّى ربَّانيًّا حتى يعرف الحقَّ ويعمل به ويعلِّمه، فمن علم وعمل وعلَّم فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات»(٤). ومن الأوصاف المطلوبة في المرشد الدينيِّ الموجِّه للحاجِّ أو المعتمر أن يتمتَّع بإحاطةٍ علميةٍ شاملةٍ بمسائل الحجِّ وأحكامه فضلاً عن تحصيله لقدْرٍ حسنٍ لعلوم الدين والشريعة أوَّلاً، وهو شرطٌ أساسيٌّ لمن قُلِّد هذا المنصب لأنه مبلِّغٌ عن الله أحكامه، ولا يبلِّغها عنه من جهل أحكامَه، وأن يكون مَرْضِيَّ السيرة طيِّبَ السريرة ثانيًا، أي: أن يكون متَّصفًا بالصدق والأمانة في أقواله وأفعاله حتى يثق الحاجُّ في أقواله ويقبلها منه، ويكون محافظًا على مروءته صادقًا، متشابهًا في الاستقامة في أحواله الظاهرة والباطنة في سرِّه وعلانيته ثالثًا، فلا يكون من أصحاب الأغراض الدنيوية والمصالح المالية والمقاصد الخبيثة، ذلك «لأنَّ علماء المسلمين لم يختلفوا في أنَّ الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين وإن كان بصيرًا بها»(٥). هذا، ولا يقتصر المرشد الدينيُّ على مرافقة الحاجِّ إلى البقاع المقدَّسة دون لقاحٍ علميٍّ ولا توجيهٍ تربويٍّ، بل واجبه تجاه الحاجِّ أن يحرص على تعليمه وتهيئته قبل ذهابه إلى الحجِّ وأثناء أداء مناسكه حتى يفرغ منها، لذلك كان على عاتق المرشد الموجِّه مسؤوليةُ تفعيل النشاط العلميِّ من حصصٍ تكوينيةٍ إعداديةٍ ودوراتٍ علميةٍ توجيهيةٍ تتعلَّق بمناسك الحجِّ وأحكامه وفوائده ومنافعه الأخروية والدنيوية ومكمِّلاته ومبطلاته وغيرها ممَّا له علاقةٌ بالحجِّ، سواءٌ من جهة العقيدة والأحكام أو من جهة السلوك والسيرة، كلُّ ذلك لتهيئة الحاجِّ نفسيًّا قبل توجُّهه إلى البقاع المقدَّسة وإعداده إعدادًا روحيًّا وإيمانيًّا من جهة العلم والعمل والسلوك والأخلاق. كما ينبغي على المرشد الدينيِّ أن لا يتخلَّف عن مَهَمَّته التعليمية والتربوية والتوجيهية في السفر وأثناء الحجِّ، بل يبقى مجهوده قائمًا على خدمة الحاجِّ، سواءٌ في أماكن نزوله بالحرمين أو في الخيام بمنًى أو عرفاتٍ وبقيَّة الأماكن، وهو في كلِّ ذلك يتحلَّى بالحكمة والحِلْمِ والأناة والسكينة والصبر -كما تقدَّم في أوصافه المطلوبة-، بعيدًا عن الغفلة والمجافاة والصخب وإيثار المصلحة والتدليس والتغرير والرياء والسمعة وحبِّ الظهور والمشيخة على الناس دون أن يكون له رصيدٌ في قلبه من حسن النيَّة وسلامة القصد ومحبَّته لأخيه ما يحبُّ لنفسه، كما ينبغي أن لا يدخل قلبَه قصدُ حُطام الدنيا أو عرَضٍ من أعراضها وغيرها من مساوئ الأخلاق التي أضحت سمةً بارزةً لعيِّناتٍ مختارةٍ من المرشدين غير مؤهَّلة المستوى العلميِّ ومتدنِّية التعامل الخُلُقيِّ، لا ينفكُّ عنهم العديد من الخصال الذميمة السابقة البيان. والواجب على المرشد الدينيِّ للحاجِّ خصوصًا والداعية إلى الله عمومًا أن يهتمَّ بأمر التوحيد ويوضِّح حقيقته للناس ومضادَّه من الشرك توضيحًا كاملاً حتى يكونوا على بيِّنةٍ من هذا الأصل الأصيل الذي عليه المدار في صلاح الأعمال وفسادها وقبولها لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٥]، كما عليه أن يبيِّن الأصل الثاني في قبول الأعمال وصحَّتها وهو متابعة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، إذ لا يُعبد الله إلاَّ وحده لا شريك له، وبالشريعة التي جاء بها رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم تحقيقًا للشهادتين، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠]، وقال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: ١٣-١٤]، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢]. والآية تدلُّ على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يهدي الناس هداية بيانٍ وإرشادٍ إلى الصراط المستقيم، ويحثُّ عليه ويرغِّب فيه، ويسعى باذلاً جُهْدَه في سلوك الناس له، وقد بيَّن ابن القيِّم -رحمه الله- معنى الصراط المستقيم بقوله: «وهو طريق الله الذي نصبه لعباده على ألْسُنِ رسله، وجعله مُوصِلاً لعباده إليه ولا طريق لهم إليه سواه، بل الطرق كلُّها مسدودةٌ إلاَّ هذا، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يشرك به أحدًا في عبوديته ولا يشرك برسوله أحدًا في طاعته، فيجرِّد التوحيد ويجرِّد متابعة الرسول، وهذا معنى قول بعض العارفين: «إنَّ السعادة والفلاح كلَّه مجموعٌ في شيئين: صدق محبَّته وحُسْن معاملته»، وهذا كلُّه مضمون شهادة أنْ «لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله»، فأيُّ شيءٍ فُسِّر به الصراط فهو داخلٌ في هذين الأصلين»(٦). لذلك كان مصدر المرشد الديني ومرجعه التشريعيُّ إنما هو الكتاب والسنَّة، فكلاهما وحيٌ متَّبعٌ، فلا ينبغي عليه أن يحاكم إلى غير الوحي ولا يرضى بحكم غيره لقوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ [الأعراف: ٣]، وقوله تعالى: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: ١٠٦]، وقوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: ١٥٥]، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: ٥٩]. وبناءً عليه، فإنه يجب على المرشد -في توجيهه الدينيِّ- اتِّباعُ الحقِّ الذي ظهر له محقَّقًا بدليله، ويرشد الناس إليه، ويهديهم إلى العمل بأحكام الشرع الحنيف، ولا يأخذ بقول إمامه المتَّبع ولا يفتي به إلاَّ إذا وافق الحقَّ، ويعتقده أنه من أمر الله ورسوله، إذ إنَّ إمام المذهب ليس له من الطاعة إلاَّ ما وافق فيه الدليل؛ لأنه مبلِّغٌ عن الله دينَه وشرْعَه، فمن اعتقد أنَّ الطاعة المطلقة تُعْقَد لصاحب المذهب والتزم باتِّباع قوله ومذهبه -مصيبًا كان أو مخطئًا- فقد أنزل الإمامَ المتبوع في أتباعه منزلةَ النبيِّ المعصوم صلَّى الله عليه وسلَّم في أمَّته، وهذا -بلا شكٍّ- من التبديل لدين الله والتقديم على الوحيين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ﴾ [الحجرات: ١]، إذ من نصَّب إمام مذهبٍ أو أيَّ شخصٍ كائنًا من كان دعوةً يدعى إليه أو مبدأً يرمي إليه، يوالي ويعادي عليه فقد أعرض عن الوحي ولم ينتفع بنصوص الكتاب والسنَّة، واستغنى بأقوال الرجال عن الوحي، وأثبت لهم العصمة عن الخطإ فعلاً وإن خالف قوله، وقلَّدهم كتقليد أهل الأهواء الآباءَ على نحو ما أخبر الله تعالى به حيث قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾[لقمان: ٢١]. وجديرٌ بالتنبيه أنه -بغضِّ النظر عمَّا تجري عليه الفتوى في بلده- فإنَّ المرشد المؤهَّل يجب عليه اتِّباع الهدى، سواءٌ وافقه المذهب الساري في بلده أو خالفه، ما لم يكن الخلاف في مسألةٍ تعلَّقت بعبادةٍ عامَّةٍ فصل فيها الحاكم باختيار أحد المذاهب ولم يَرِدْ -في ذلك- نصٌّ صريحٌ من الكتاب والسنَّة أو الإجماع ينقض حُكْمَه، وإلاَّ فالوحي المنزَّل حاكمٌ على أقوال المجتهدين، سواءٌ كانوا حاكمين أو محكومين، لذلك كان لزامًا على أهل الدعوة والتوجيه تنزيهُ الدين من الأقوال الباطلة والآراء الكاسدة، فإنَّ ذلك يُعَدُّ من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم، تلك النصيحة تقتضي إحقاق الحقِّ وردَّ أقوال الأئمَّة إن خالفتْه، وليس ذلك من الإجحاف بفضل أئمَّة الإسلام، ولا الانتقاص من حقوقهم وقدرهم ومراتبهم، وليس معنى ذلك -من جهةٍ أخرى- إهدار جميع أقوالهم ولو وافقت الحقَّ، فتركُ بعض أقوالهم المتعارضة مع نصوص الوحي من النصيحة ولا يلحقهم بذلك ذمٌّ ولا عيبٌ ولا نقصٌ. فالحاصل أنَّ على المرشد الدينيِّ اتِّباع الهدى وتَرْك الهوى وعدم الخوف من كيد الكائدين واعتراض الشانئين والمتربِّصين والحاسدين وغيرهم، فإنَّ الأمن من الوقوع في الاختلاف والفُرقة المذمومة، والسلامةَ من الضلال والزيغ لا يحصل إلاَّ باتِّباع الهدى لقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣]، ولقوله تعالى: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: ٣١-٣٢]، فإنَّ المتمسِّك بالهدى بإخلاصٍ وصدقٍ معتصمٌ بحبل الله ومؤتلفٌ على الحقِّ وبالحقِّ، وآمنٌ من الوقوع في الفُرقة المذمومة، «وأهل هذا الأصل: هم أهل الجماعة كما أنَّ الخارجين عنه هم أهل الفُرقة»(٧)، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ»(٨)، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١]، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: «هذه الآية الكريمة أصلٌ كبيرٌ في التأسِّي برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمر الناسَ بالتأسِّي بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرجَ من ربِّه»(٩). كما أنَّ على المرشد الدينيِّ أن يعلِّم الحاجَّ الأخلاق الحسنة ويربِّيَه على الخصال الحميدة ليتحلَّى بها، وبالمقابل يحمله على التخلِّي عن الأخلاق المذمومة، وهي -إن كانت منهيًّا عنها في كلِّ الأوقات- إلاَّ أنها في الحجِّ آكَدُ وبالحاجِّ أحقُّ وأليق، فيأمره بأنْ لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل ولا يشاحن ولا يزاحم الناس ولا يؤذيَ أحدًا منهم، ولا يطلقَ لسانه في أعراضهم، فلا يستمعُ إلى منكرٍ من القول وزورٍ، ولا يسبُّ ولا يشتم ولا يرائي ويظلم ولا يظنُّ بأحدٍ سوءًا ولا يضمر له شرًّا ولا ينظر إليه بعين الاحتقار ولا يشتغل بسفاسف القضايا ولا حقائر الأمور، وغير ذلك ممَّا ورد النهي عنه وحذَّر الشارع منه، ويكون المرشد مثاليًّا: أوَّلَهم تطبيقًا وأشدَّهم عملاً. وعلى المرشد الدينيِّ أن يأخذ نفسه بمراقبة الله تعالى في أعماله وتصرُّفاته، فينبغي أن يكون أمينًا في تعامُله مع الحاجِّ فلا يخونه في قليلٍ ولا كثيرٍ، ولا يسيء إليه أو يناله بمكروهٍ، ولا يضيِّعه إذا احتاج إليه، ولا يخذله ولا يمنعه بتوجيهٍ أو تعليمِ حكمٍ أو بيانِ مسألةٍ، بل يخدم الحاجَّ ويتواضع له ولا يتكبَّر عليه ويستصغره أو يحقره أو يبتعد عنه ابتغاءَ جلب محبَّة أهل المناصب ومؤالفتهم أو التزلُّف لأهل الأموال والغنى، ولا يتسمَّع إلى حديثٍ يخفيه عنه الحاجُّ، ولا يكون فضوليا معه، كأن يطلب منه نوعَ عمله ورتبتَه ووظيفته تحسُّبًا للظفر بمعارفَ يقضي بها حاجياته عند عودته إلى بلده. وعلى المرشد الدينيِّ الرفقُ في المعاملة، فيوقِّر الحاجَّ إن كان كبيرًا، ويرحمه إن كان صغيرًا، ويسعفه ويعوده إن كان مريضًا، ويدعو له بالشفاء والعافية، ويعينه بما أوتي من قدرةٍ إن كان منقطعًا أو عاجزًا، ويهديه إن كان ضالاًّ تائهًا، ويتفقَّده إن كان ضائعًا، ويرشده إن استرشد، ويرعى حالَه ويصون كرامته وينصفه من نفسه، ويعامله بما يحبُّ أن يعامَل به، فيحبُّ له ما يحبُّ لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»(١٠)، ولحديث عمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنهما -موقوفًا-: «لاَ يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ الإِيمَانَ حَتَّى تَكُونَ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ: الإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ، وَالإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ»(١١). وإذا ابتلي المرشد بقلَّة أدب بعض الحجَّاج وسوء معاملته وتصرُّفاته فليصبر عليه ويرفقْ به ويخالقْه بخلقٍ حسنٍ، ويحتسبْ ذلك عند الله، فيبذلُ له المعروف، ويعفو عن إساءته له، ويكفُّ عنه الأذى ويستر زلَّته، فإنَّ هذا الأدب الرفيع لا يأتي إلاَّ بخير، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فُصِّلت: ٣٤-٣٥]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»(١٢). هذا، وعلى المرشد الدينيِّ أن يحاسب نفسه على أيِّ تفريطٍ أخلَّ به، ويلومَها على أيِّ تقصيرٍ لم يؤدِّ حقَّه فيه، وعليه أن يحمل نفسه على الخوف من مقام الله وينهى نفسه عن الهوى لقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: ٤٠-٤١]، فيجتهد في تأديب نفسه حتى تطمئنَّ، ويجاهدُها حتى تطهر وتطيب، خاصَّةً في رحاب الحجِّ الكبير وميدان الحجَّاج الفسيح على مختلف أحوالهم وأجناسهم وألوانهم وأمزجتهم، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩]. تلك هي رسالة المرشد الدينيِّ ومَهَمَّته التعليمية والتوجيهية الخاضعة للمسلك الأخلاقي والتابعة للمنهج التربوي، ودوران مسؤوليته بين المراقبة والمحاسبة والمجاهدة. نسأل الله تعالى أن يوفِّق الجميع للتمسُّك بكتاب ربِّنا وسنَّة نبيِّنا، فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله وخيرَ الهدي هديُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، كما يوفِّق الجميع لمعرفة الحقِّ والعمل به ومعرفة الباطل واجتنابه، قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٥-١٦] والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٠ من ذي القعدة ١٤٣٣ﻫ الموافق ﻟ: ٠٦ أكتوبر ٢٠١٢
(١) أخرجه أحمد (٢٣٠٤)، وأبو داود في «المناسك» باب فرض الحجِّ (١٧٢١)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وصحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود» (١٥١٤).
(٢) أخرجه ابن ماجه في باب فضل العلماء والحثِّ على طلب العلم (٢٢٤)، من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، وهو في «صحيح الجامع» (٣٩١٣).
(٣) أخرجه مسلم في «الحجِّ» (١٢٩٧)، والبيهقي في «السنن الكبرى» واللفظ له (٩٥٢٤)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. انظر: «الإرواء» للألباني (٤/ ٢٧١).
(٤) «زاد المعاد» لابن القيِّم (٣/ ١٠).
(٥) «الفقيه والمتفقِّه» للخطيب البغدادي (٢/ ١٥٦).
(٦) «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٢/ ٤٠).
(٧) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٨/ ٥١).
(٨) أخرجه مسلم في «الحجِّ» (١٢١٨) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(٩) «تفسير ابن كثير» (٣/ ٤٧٤).
(١٠) أخرجه البخاري في «الإيمان» باب من الإيمان أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه (١٣)، من حديث أنسٍ رضي الله عنه.
(١١) أخرجه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (٣٦٠)، من حديث عمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري معلَّقًا موقوفًا في «الإيمان» (١/ ١٥) بابٌ: إفشاء السلام من الإسلام، بلفظ: «ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ». قال ابن رجبٍ في «فتح الباري» (١/ ١٣٤): «ورفعُه وهمٌ»، إلاَّ أنَّ مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع. وانظر «فتح الباري» (١/ ١٠٥).
(١٢) أخرجه أحمد (٢١٣٥٤)، والترمذي في «أبواب البرِّ والصلة» باب ما جاء في معاشرة الناس (١٩٨٧)، من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (١٣٧٤)
| |
|